شؤون المجتمع:
إن الإسلام لم يكتف في تعاليمه بالعقائد وبالتوجيه الخلقي، بل قدم نظاماً عاماً للحياة، يشمل صلات الفرد بالآخرين وبالدولة، وتنظيمات إدارية ودولية، فضلاً عن قوانين الأحوال الشخصية.
هذه التداخلات التفصيلية في الشؤون الحياتية، تفتح مجالاً للتساؤل عن سببها، ثم هل بالإمكان وضع نظام ديني، يتمتع بالقداسة والثبات للمجتمع وشؤونه المتطورة في كل عصر، حتى أصبحت كل يوم هي في شأن.
ولأجل إيضاح هذه النقطة، التي أعتبرها أهم النقاط في هذه المحاضرة، والتي تجاوز السؤال عنها نطاق الكتب الباحثة عن الإسلام، بل أصبحت مجالاً لتساؤلات الجميع حتى المسلمين أنفسهم، لأجل إيضاح هذه النقطة نطرح أولاً هذا السؤال:
هل الذين يكتفون أو يريدون من الأديان أن تكتفي بالإيمان والأخلاق، يعتقدون أن صيانة الإيمان والمحافظة على الأخلاق الحسنة، أمران ممكنان، لمن لا يرتبط في عمله الخارجي بخطة تتناسب مع الإيمان والأخلاق المذكورين؟
هل الإنسان من جهة كونه موجوداً واحداً لا موجودات متعددة، يتمكن من أن يعزل روحه عن تأثيرات جسده، أو يمنع جسمه من التفاعل مع روحه؟
والإيمان والأخلاق اللذان هما من أفعال النفس وصفاتها، هل يمكن إبعادهما عن تأثيرات أعمال الجسد؟
طبعاً الجواب سلبي وواضح.
فإن التفاعل بين جوانب وجود الإنسان أمر بديهي، ولهذا، ولأجل صيانة الإيمان والأخلاق، لا بد للإنسان من أن يتقيد بعمله، وأن يرتبط برباط يتناسب مع الصيانة الروحية المذكورة
والقرآن الكريم مثل بقية الكتب المقدسة، يؤكد هذا التفاعل، ويعلن أن ممارسة الأعمال السيئة تنـزع الإيمان من القلب:
{ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون}[الروم/10].
ثم هل من المعقول أن يعيش الإنسان في مجتمع يناقض الخط الذي يسلكه في عمله، ويتنافى مع إيمانه وأخلاقه، ثم لا ينفعل بذاك المجتمع؟!
إن الإنسان في تكوينه، في حياته، في حاجاته، في وعيه، في تفكيره، وفي جميع جوانب حياته... الإنسان في جميع ذلك، موجود اجتماعي يتفاعل مع مجتمعه الذي يعيش فيه. فهل يمكنه أن يعزل إيمانه وأخلاقه وأعماله الشخصية عن تفاعلات مجتمعه؟
أعتقد أن الجواب عن هذا السؤال سلبي أيضاً، ولهذا فقد أكد الإسلام، على لزوم إيجاد مجتمع يتناسب مع الإيمان والأخلاق، والأعمال الصالحة، وأعلن بصراحة: "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع".
أكرر كلمة "ما آمن"، لكي ننتبه إلى التناقض الذي يراه الإسلام بين الإيمان وبين سوء الوضع الاجتماعي الذي يوجب هذه الظاهرة، والقرآن يؤكد هذا المبدأ:
{أرأيت الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدعُّ اليتيم * ولا يحضُّ على طعام المسكين}[الماعون/301].
وعلى هذا الأساس، نجد أن الإسلام، الذي يؤكد نبيه "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، يحاول لأجل هذه الغاية أن يتدخل في الحياة العملية للإنسان، ثم في الحياة الاجتماعية، فيضع للأول مبدأ الحلال والحرام، وللثاني الأنظمة القانونية الواسعة، التي تشكِّل ما يقرب النصف من التعاليم الإسلامية.
فلندخل الآن في مطالعة السؤال المهم الذي يطرح، وهو صعوبة انسجام القوانين الثابتة مع المجتمع المتطور. والجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى عرض أمور ثلاثة:
أولاً: إن التطور في الحياة، وفي التاريخ البشري، معناه تفاعل الإنسان مع الكون.
فالإنسان في كل يوم تزداد تجاربه، وتتقدم علومه، فيكشف أِشياء جديدة من الكون، ثم يستعمل معرفته الجديدة، ويمارس وعيه الجديد، فيستفيد من القوى الكونية المكتشفة، ويطوّر بذلك حياته الشخصية والاجتماعية، وينتقل إلى فصل جديد من فصول التاريخ البشري الطويل.
فالتطور هو قراءة الإنسان سطراً جديداً من كتاب الكون، وطيّ صفحة جديدة من هذا الكتاب، وممارسة معرفته الجديدة والمتغيرات الناتجة عنها.
هذا هو مفهومنا عن التطوّر، فليس هناك موجبٌ غريب للتطور، يدخل من عالم آخر في حياة الإنسان وفي العالم الذي يعيش فيه.
ليس هناك شيء يطور حياة الإنسان من الخارج، ولا هناك فقد عامل من عوامل الحياة الإنسانية، لكي تتغير الحياة من أجله.
إن التطوَّر، هو تفاعل الإنسان مع الكون فقط، والمعروف أن الإنسان والكون، عنصران كانا في مسرح الحياة من أوَّل الخلق، ما زاد فيهما شيء، ولا نقص منهما شيء، بل تبدأ كل صفحة جديدة من الحياة بكشف جديد للإنسان عن الكون وبتفاعل بينهما.
ثانياً: إنَّ الدّين حسب رأي الإسلام، شريعةٌ وضعها خالق الكون والإنسان، أي الله سبحانه. وخالق الكون، يعرف جميع جوانب وجوده، ظواهره وبواطنه، ويعرف أيضاً جميع جوانب وجود الإنسان، وجميع حاجاته ورغباته.
إن الله يعرف هذا كله، وقد وضع قوانين لكي يتمتع الإنسان بالكون، فيحيا حياةً طيبة كاملة، تماماً مثلما تضع مؤسسات صنع السيارات توجيهاتٍ لصيانة السيارة، والاستفادة الكاملة منها، لأن المؤسسة، خبيرة بكيفية صنع السيارة، مشخصاتها، وطرق الاستفادة الكاملة منها.
ثالثاً: قلنا إن الله خالقٌ للكون وعارفٌ به، وخالقٌ للإنسان وعارفٌ به، وقد وضع نصوصاً وتوجيهات، لكي يعيش الإنسان في الكون حياةً طيبةً كاملةً، ذات هدف كبير.
وحسب رأي الإسلام أيضاً، وضع الله الشريعة والتوجيهات المذكورة بكلمات صادرة عنه، وهي الآيات القرآنية. والإيمان الإسلامي يرى، أن معاني القرآن منـزلة بألفاظه بعينها.
والمعروف أن كلام الله يختلف عن كلام البشر تماماً، حيث إن فهم كلام البشر محدود بمستوى معرفة القائل، ولا يمكن التجاوز لهذا الحدّ. وكلما ازداد مستوى معرفة المتكلم، ازداد إمكان تفسير كلامه والتعمّق فيه. ولهذا السبب، يتعمق القضاة والمحامون في تفسير نصوص القوانين، إلى درجات تتجاوز جداً حدود تفسير كلام العامة من الناس.
وحيث إن مستوى معرفة الله لا حدّ له، فيمكن الاعتماد على جميع مراحل مدلولات كلامه، وكلّما ازداد التعمق فيه، يتبين معنى جديد لكلامه.
فكلامُ الله من هذه الناحية، مثل الحقائق الكونية، بل هو بعينه من الحقائق الكونية، يكتشف الإنسان منه في كلِّ مرحلة شيئاً جديداً، كما يكتشف من الكون في كل مرحلة شيئاً جديداً، وكما تظهر كل يوم صفحة جديدة من حقيقة الإنسان بمعرفته الجديدة.
وبعد عرض هذه المقدمة، نعود إلى الجواب عن التساؤل المذكور فنقول: إن الإنسان له تفاعلات مع الكون تشكِّل أسس التطور، وهذه التفاعلات تنظمها شريعة الله، ولها أيضاً مع كل مرحلة من التطور، تعاليم متطورة، تتناسب مع المرحلة التي يعيشها الإنسان، فتنظم الصلات والتفاعلات الثابتة بين الإنسان والكون.
وخلاصة الجواب، أن على مسرحنا عوامل ثلاثة، كل واحد منها يواكب غيره، باكتشاف مراحل جديدة، وحقائق جديدة، هي الإنسان، الدين، والكون.
وبهذه الطريقة الموجزة، يمكننا أن نحتفظ بصفة القداسة للأنظمة الدينية العائدة للإنسان والمجتمع، مع إفساح المجال لتطويرها ضمن الإطار العام الذي يتضح للباحث عنه. ومن هنا، فإن التعاليم المتطورة تحتفظ بإلهيتها وقوتها وقيادتها قيادةً متطورة مستقاة من القواعد الثابتة الدينية.
منقول للفائدة