وقد نظم قصة هذه الأم الفاضلة مع ولدها سفيان العشماوي - حفظه الله - في قصيدة شعرية بديعة، وأرشد الأمهات إلى الاقتداء بها، فقال:
علميه الحديث كي يتسامى *** وامنحيه الإحساس والإلهاما
وانثري في طريقه الورد هزي *** بيديك الكريمتين الغماما
رفرفي فوقه حمامة أمن *** تمنح الأمن قلبه والسلاما
وامسحي وجهه براحة حب *** تجعل الوجه مشرقاً بساما
أنت أرضعته الحنان صغيراً *** فاجعلي حبك الكبير الفطاما
أم سفيان يا حديثة صبر *** جعل اليتم همةً واحتراما
مغزل العزم في يديك أرانا *** كيف ترعى المغازل الأيتاما
مغزل ينسج الرجولة ثوباً *** بيد الأم كي تصون الغلاما
اغزلي الثوب ثم بيعيه حتى *** ترفعي لابنك الحبيب المقاما
امنحيه المال الحلال فإني *** لا أرى مثله يسيغ الحراما
وابعثي المغزل الجميل إلينا *** كي نداوي بنسجه الأسقاما
كي ترى الأمهات فيه شموخاً *** صار رمزاً به وصار وساما
ابعثي المغزل الجميل خطاباً *** لنساء أكثرن فينا الخصاما
شرقوا غربوا بهن غدواً *** ورواحاً تزحلقاً وارتطاما
يمنحوهن في المحافل حتى *** أصبح العري عندهن احتشاما
قدموهن للظلال شراباً *** ولجوعى النفوس منهم طعاما
أكلوهن في صباهن لحماً *** ورموهن حين شبن عظاما
ابعثي المغزل الجميل وساماً *** لنساء لا يرتضين انهزاما
قد عمرن البيوت حباً وعطفاً *** وحناناً ورحمة وابتساما
وبنين الأجيال قلباً وروحاً *** وعقولاً تحارب الأوهام
أم سفيان وجه طفلك أمسى *** قمراً لا يطيق إلا التّماما
أنت أرضعته مع الحب نوراً *** من يقين فلم يخاف الظلاما
أنت أركضت خيله دون خوف *** بعد أن أمسكت يداه الزماما
أنت أرشدته إلى الكنز حتى *** صار كنزاً وحقق الأحلاما
أم سفيان يا كريمة نفس *** ملئت صفحة الحياة التزاما
حدثتنا الأمجاد عنك فقالت *** هكذا يصنع الكريم الكراما
هكذا صاغت الأمومة طفلاً *** فغدا سيداً وصار إماما[13]
والأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة جدا، ولكننا اقتصرنا على ما جادت به قريحتنا، وجال في خاطرنا، واستحضرته ذاكرتنا، فجزى الله هؤلاء الأمهات الفضليات خير الجزاء، وحشرهن مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، وقد أحسن من قال:
ولو كان النساء كمن ذكرنا *** لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب *** ولا التذكير فخر للهلال[14]
وفي الأخير: هذه همسة نهمسها في آذنك -أيتها الأم الفاضلة- فنقول: أنتِ مربية الأجيال، وصانعة الرجال، فينبغي عليك أن تقتدي بهؤلاء الأمهات الفضليات، وأن تبذلي جهدك وطاقتك في تربية فلذات الأكباد، وأن تشعريهم بحبك وحنانك، وأن تحيطهم بنصحك ورعايتك؛ وأن توجيههم التوجيه السليم؛ فذلك مساهمة منك في نصرة هذا الدين، والذود عن حياضه.
ولتعلمي -أيتها المباركة- أنكِ في بيتكِ ملكة؛ وقد منحك الله السلطة والهيبة، وجعلك مسؤولة عن بيتك وزوجك وولدك؛ فإذا قُمتِ بهذه المسؤولية، وأحسنت تربية الأولاد عاد ذلك عليكِ بالنفع في دنياكِ وآخرتكِ، أما في دنياكِ فإن الأولاد إذا تربوا تربية حسنة، فسيقر بذلك عينكِ، لأنك اتصفتِ بصفة من صفات عباد الرحمن؛ كما أخبر بذلك صاحب العزة والسلطان في أواخر سورة الفرقان؛ حيث قال: (والذين يقولون رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان(74)]. قال القاسمي - رحمه الله -: "أي أولادا وحفدة، تقر بهم العيون وتسر بمكانهم الأنفس، لحيازتهم الفضائل واتصافهم بأحسن الشمائل"[15].
وهذا زكريا - عليه السلام - يسال ربه ذرية طيبة، فيقول: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) [آل عمران(38)].
وأما في آخرتكِ فإن الأولاد إذا تربوا تربية حسنة؛ فإنهم سيدعون الله لكِ، وسيصلك أجر ذلك إلى قبرك؛ كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته))[16].
ولما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة) وذكر منهن: (أو ولد صالح يدعو له)[17]، والولد إذا أطلق في النصوص الشرعية شمل الذكر والأنثى؛ كما في قوله - تعالى -: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء(11)].
وسيرفع الله لكِ الدرجات في الجنة باستغفار ولدكِ لك؛ كما جاء في الحديث عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله - عز وجل - ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقول باستغفار ولدك لك))[18].
وفقكِ الله إلى كل خير، وصرف عنكِ كل سوء ومكروه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
منقول..