بسم الله والصلاة والسلام على خير خلق الله
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الاولين والآخرين وقائد الغر المحجلين
تكريمًا للرفعة والمنزلة، وتتويجًا للفضل والعطاء، وتقديرًا للدور العظيم في مسيرة الدعوة الإسلامية، جاءت الكنية "أُمَّهات المؤمنين" لتكون وسامًا على صدور زوجات رسول الله اللائي تزوَّج بهن، وذلك في نحو قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وكان الهدف من إطلاق هذه الكنية عليهن تقرير حرمة الزواج بهن بعد مفارقته لهن، وهو الحكم الوارد في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53].
وقبل الحديث عن أمهات المؤمنين الطاهرات، وحكمة الزواج بهن، نردُّ على شبهةٍ سقيمة طالما أثارها أعداء الإسلام من الصليبيين الحاقدين والغربيين المتعصِّبين بين الحين والآخر، يريدون بذلك النيل من نبي الإسلام ، ومفادها أن النبي كان شهوانيًّا محبًّا للنساء، ساعٍ في قضاء شهوته ونيل رغباته منهن، وذلك استنادًا إلى تعدُّد زوجاته !
والحقيقة التي لا مراء فيها أن الرسول لم يكن رجلاً شهوانيًّا، وإنما كان بشرًا نبيًّا، تزوَّج كما يتزوَّج بنو الإنسان، وعدَّد كما عدَّد غيره من الأنبياء، ولم يكن بِدْعًا من الرسل حتى يخالف سُنَّتَهم أو ينقض طريقتهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} [الرعد: 38]. وليس أوضح في ذلك ممَّا جاء في التوراة من أن سليمان u -على سبيل المثال- تزوَّج مئات من النساء.
فليس غريبًا ولا عجيبًا أن يحبَّ الرسول المرأة ويقيم معها عَلاقة طبيعيَّة وَفق ضوابط تشريعيَّة عظيمة، يقول العقاد: "ونحن قبل كل شيء لا نرى ضيرًا على الرجل العظيم أن يحبَّ المرأة ويشعر بمتعتها، هذا سواءٌ في الفطرة لا عيب فيه، وهذه النفس السويَّة يمكننا أن نفهمها بجلاء حين نرى أن المرأة لم تشغله عما تشغل المرأة الرجل المفرط في معرفة النساء عن مهامِّ الأمور والقيام بالأعباء الجسام... فمهما قال هؤلاء فلن يستطيعوا أن ينكروا أن محمدًا قد حقَّق ما لم يحقِّقه بشر قبله ولا بعده، لم يشغله عن هذا شيء، لا امرأة ولا غير امرأة، فإن كانت عظمة الرجل قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقَّها، ويعطي المرأة حقَّها، فالعظمة رجحان وليست بنقص، وهذا الاستيفاء السليم كمال وليس بعيب"[1].
وبدراسة حياته وسيرته نجد أن زواجه من أُمَّهات المؤمنين كان بعيدًا كل البعد عن الاستسلام للنزوات الجنسيَّة والانغماس باللَّذة، على عكس ما ذهب إليه المستشرقون المغرضون، يقول العقاد: "قال لنا بعض المستشرقين: إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسيَّة. قلنا: إنك لا تصف السيِّد المسيح بأنه قاصر الجنسيَّة لأنه لم يتزوَّج قطُّ، فلا ينبغي أن تصف محمدًا بأنه مفرط الجنسيَّة لأنه جمع بين تسع نساء"[2].
ولو أمعنَّا النظر في سيرته في مرحلة ما قبل الزواج لوجدنا أنه كان مثالاً في العفَّة والطهارة، وأمَّا بعد الزواج فنجد أنه لم يُعَدِّد زوجاته إلاَّ بعد أن تجاوز خمسين عامًا من عمره، كما نجد أن جميع زوجاته الطاهرات كُنَّ ثيبات (أرامل)، ما عدا السيدة عائشة -رضي الله عنها- فكانت بكرًا، وهي الوحيدة من بين نسائه التي تزوَّجها وهي في حالة الصبا والبكارة.
ومن ذلك ندرك وبكل سهولة تفاهة هذه الشبهة، وبطلان ذلك الادّعاء الذي ألصقه أعداء الإسلام بالرسول ؛ إذ لو كان المراد من الزواج هو الشهوة أو مجرَّد الاستمتاع بالنساء لتزوَّج في سنِّ الشباب لا في سنِّ الشيخوخة، ولكان تزوَّجَ الأبكار الشابَّات لا الأرامل المسنَّات.
ولا شكَّ أن هذا يدفع كل تقوُّل وافتراء، ويدحض كل شبهة وبهتان، ويردُّ على مَن يريد أن ينال من قدسية الرسول أو يشوِّه سمعته، فما كان زواج الرسول بقصد الهوى أو الشهوة، وإنما كان لحِكَمٍ جليلة، وغايات نبيلة، وأهداف سامية سنعلمها في حينها، تتلخَّص في التضحية العظيمة، ومصلحة الدعوة والإسلام.
وقد شهد ببطلان تلك الشبهة المنصفون الغربيون، فها هو لايتنر[3] يقول: "لما بلغ السنة الخامسة والعشرين من العمر تزوَّج امرأة عمرها أربعون عامًا، وهذه تشابه امرأة عمرها خمسون عامًا في أوربا، وهي أوَّل من آمن برسالته المقدَّسة... وبقيت خديجة -رضي الله عنها- معه عشرين عامًا لم يتزوَّج عليها قَطُّ حتى ماتت. ولما بلغ من العمر خمسًا وخمسين سنة صار يتزوَّج الواحدة بعد الأخرى، لكن ليس من الاستقامة والصدق أن ننسب ما لا يليق لرجل عظيم صرف كل ذاك العمر بالطهارة والعفاف، فلا ريب أن لزواجه بسنِّ الكبر أسبابًا حقيقية غير التي يتشدَّق بها كُتَّاب النصارى بهذا الخصوص، وما هي تلك الأسباب يا تُرى؟ ولا ريب هي شفقته على نساء أصحابه الذين قُتِلُوا..."[4].
وتقول الكاتبة الإيطالية لورافيشيا فاغليري[5]: "إن محمدًا طَوَال سنين الشباب التي تَكُون فيها الغريزة الجنسيَّة أقوى ما تكون، وعلى الرغم من أنه عاش في مجتمع كمجتمع العرب، حيث كان الزواج كمؤسسة اجتماعية مفقودًا أو يكاد، وحيث كان تعدُّد الزوجات هو القاعدة، وحيث كان الطلاق سهلاً إلى أبعد الحدود، لم يتزوَّج إلاَّ من امرأة واحدة ليس غير؛ هي خديجة التي كانت سنُّها أعلى من سنِّه بكثير، وأنه ظلَّ طَوَال خمس وعشرين سنة زوجها المخلصَّ المحبَّ، ولم يتزوَّج مرَّة ثانية وأكثر من مرَّة إلاَّ بعد أن تُوُفِّيت خديجة، وإلاَّ بعد أن بلغ الخمسين من عمره. لقد كان لكل زواج من زواجاته هذه سبب اجتماعي أو سياسي؛ ذلك بأنه قصد من خلال النسوة اللاتي تزوَّجهن إلى تكريم النسوة المتَّصفات بالتقوى، أو إلى إنشاء عَلاقات زوجيَّة مع بعض العشائر والقبائل الأخرى؛ ابتغاء طريق جديد لانتشار الإسلام، وباستثناء عائشة ليس غير، تزوج محمد من نسوة لم يَكُنَّ لا عذارى، ولا شابَّات، ولا جميلات، فهل كان ذلك شهوانية؟ لقد كان رجلاً لا إلهًا، وقد تكون الرغبة في الولد هي التي دفعته أيضًا إلى الزواج من جديد؛ لأن الأولاد الذين أنجبتهم خديجة له كانوا قد ماتوا. ومن غير أن تكون له موارد كثيرة أخذ على عاتقه النهوض بأعباء أسرة ضخمة، ولكنه التزم دائمًا سبيل المساواة الكاملة نحوهن جميعًا، ولم يلجأ قَطُّ إلى اصطناع حقِّ التفاوت مع أي منهن. لقد تصرَّف متأسِّيًا بسُنَّة الأنبياء مثل موسى وغيره، الذين لا يبدو أن أحدًا من الناس يعترض على زواجهم المتعدِّد. فهل يكون مردُّ ذلك إلى أننا نجهل تفاصيل حياتهم اليوميَّة، على حين نعرف كل شيء عن حياة محمد العائلية؟!"[6].
وإذا ما انتفت تلك الشبهة فإنَّا نعود إلى أُمَّهات المؤمنين، زوجات النبي ، نتعرَّف عليهنَّ، ونتناول سيرتهنَّ، ونبدأ بأوَّل امرأة تزوَّجها رسول الله ، وهي شريفة قريش، وأمِّ المؤمنين: خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها.