أجرى الله ـ تبارك وتعالى ـ على أيدي أنبيائه ورسله من المعجزات الباهرات والدلائل القاطعات التي تدل على صدق دعواهم أنهم رسل الله .. ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أكثر الرسل معجزة، وأبهرهم آية، وأظهرهم برهانا، فله من المعجزات والدلائل ما لا يُعد ولا يُحد، وقد أُلِفت في معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ المؤلفات الكثيرة، وتناولها العلماء بالبيان والشرح ..
ومن معجزاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلائل وأعلام نبوته نطق الجماد بين يديه، فحن الجذع إليه، وسلم الحجر عليه، وانقاد الشجر إليه، وشهد له بالنبوة والرسالة .. وقد حدث ذلك ورآه الصحابة بأعينهم، مما كان له أكبر الأثر في تثبيت نفوسهم، وتقوية إيمانهم، وشدة حبهم واتباعهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لما في ذلك من بيان إكرام الله لنبيه، ورفعة منزلته وقدره ..
انقياد الشجر
من معجزات الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ انقياد الشجر إليه مرات عديدة، من ذلك ما رواه جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( سرنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى نزلنا واديا أفيح(واسع)، فذهب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقضي حاجته فأتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم ير شيئا يستتر به، وإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى إحداهما، فاخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي عليَّ بإذن الله، فانقادت معه كالبعير المخشوش(المنقاد من أنفه)الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله، فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمِنْصَف(نصف المسافة) بينهما لأَمَ بينهما - يعني جمعهما فقال: التئما عليَّ بإذن الله فالتأمتا .
قال جابر : فخرجت أحضر(أجري)مخافة أن يحس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقربي فيبتعد، فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة(نظرة إلى جنب)، فإذا أنا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة على ساق، فرأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقف وقفة فقال برأسه هكذا - وأشار الراوي برأسه يمينا وشمالا -، ثم أقبل فلما انتهى إليَّ قال: يا جابر هل رأيت مقامي؟، قلت: نعم يا رسول الله، قال: فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما، حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك وغصنا عن يسارك، قال جابر : فقمت فأخذت حجرا وكسرته وحسرته(حددته) فاندلق لي، فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسلت غصنا عن يميني وغصنا عن يساري، ثم لحقته فقلت: قد فعلت يا رسول الله فعمَّ ذاك؟، قال: إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يُرَفه(يخفف)عنهما ما دام هذان الغصنان رطبين .. ) ( البخاري ).
وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في سفر فأقبل أعرابي، فلما دنا قال له النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ: أين تريد؟، قال: إلى أهلي، قال: هل لك في خير؟، قال: وما هو؟، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، قال : مَنْ شاهد على ما تقول؟ قال: هذه الشجرة، فدعاها رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدا(تأتي بسرعة) حتى جاءت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت أنه كما قال ثم رجعت إلى منبتها . ورجع الأعرابي إلى قومه وقال: إن يتبعوني آتيك بهم، وإلا رجعت إليك فكنت معك ) ( الطبراني ).
تسليم الحجر
عن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ( إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم علىَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن ) ( مسلم ).
يقول النووي : " فيه معجزة له ـ صلى الله عليه و سلم ـ، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }(البقرة: من الآية74) ..
وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله ) ( الترمذي ).
حنين الجذع
عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب إلى جذعٍ، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحنَّ الجذع، فأتاه فمسح يده عليه ) ( البخاري ) .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: ( أن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ كان يقوم يوم الجمعة فيسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد فيخطب الناس، فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه وكأنك قائم؟، فصنع له منبرا له درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد نبي الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ على ذلك المنبر خار الجذع كخوار الثور حتى ارتج المسجد، حزنا على رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فنزل إليه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ من المنبر فالتزمه(ضمه إليه) وهو يخور، فلما التزمه رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ سكن، ثم قال: أما والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة، حزنا على رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، فأمر به رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ فدُفِن )( الترمذي ) .
وكان الحسن البصري إذا حدث بهذا الحديث يبكي ويقول: " يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شوقا إليه ، أفليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه؟! "
وقال المطلب بن أبي وداعة ـ رضي الله عنه: " لا تلوموه ـ أي: الجذع ـ، فإن رسول الله لم يفارق شيئًا إلا وجَدَ (حزن) عليه "..
ونقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال : " ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى ، قال : أعطى محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ حنين الجذع حتى سُمِع صوته ، فهذا أكبر من ذلك " ..
فسبحان من أنطق لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجماد، فسلم عليه الحجر، وانقاد إليه الشجر، وحنَّ له الجذع، وجعل ذلك معجزة من معجزاته، ودليلا من دلائل نبوته وصدقه، وآية على علو شأنه ومنزلته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
منقول ..