قال - رحمه الله - :
قول بعض الناس : " الثواب على قدر المشقة " ليس بمستقيم على الإطلاق ، كما قد يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات ، والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها اللّه ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل اللّه من الطيبات ، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : " هلك المتنطعون " ، وقال : " لو مد لي الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم " ، مثل الجوع أو العطش المفرط، الذي يضر العقل والجسم ، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه ، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة ، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم ، وأن يقوم قائما ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مروه فليجلس ، وليستظل ، وليتكلم ، وليتم صومه) " رواه البخاري ، وهذا باب واسع .
وأما " الأجر على قدر الطاعة " فقد تكون الطاعة للّه ورسوله في عمل ميسر ، كما يسر اللّه على أهل الإسلام : الكلمتين ، وهما أفضل الأعمال ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن ، سبحان اللّه وبحمده ، سبحان اللّه العظيم) " أخرجاه في الصحيحين .
ولو قيل : " الأجر على قدر منفعة العمل ، وفائدته " لكان صحيحًا اتصاف الأول باعتبار تعلقه بالأمر والثاني باعتبار صفته في نفسه .
والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة الأمر فقط ، وتارة من جهة صفته في نفسه ، وتارة من كلا الأمرين ، فبالاعتبار الأول ينقسم إلى طاعة ومعصية ، وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة ، والطاعة والمعصية اسم له من جهة الأمر ، والحسنة والسيئة اسم له من جهة نفسه ، وإن كان كثيـر مـن النـاس لا يثبت إلا الأول ، كما تقوله الأشعرية وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم .
ومن الناس من لايثبت إلا الثاني ، كما تقوله المعتزلة وطائفة من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ، والصواب إثبات الاعتبارين ، كما تدل عليه نصوص الأئمة وكلام السلف وجمهور العلماء من أصحابنا وغيرهم .
فأما كونه مشقًا : فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه ، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا ، ففضله لمعنى غير مشقته ، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره ، فيزداد الثواب بالمشقة ، كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة : " أجرك على قدر نصبك) " لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة ، وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر ، وكذلك الجهاد ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأه ويتتعتع فيه ، وهو عليه شاق له أجران " .
فكثيرًا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب ، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل ، لكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب ، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ، ولم يجعل علينا فيه حرج ، ولا أريد بنا فيه العسر ، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة منهم .
وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبًا مقربًا إلى اللّه ؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد ، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم .
ولهذا تجد هؤلاء مع من شابههم من الرهبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات ، مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها ، ولا منفعة إلا أن يكون شيئًا يسيرًا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه .
ونظير هذا الأصل الفاسد مدح بعض الجهال بأن يقول : فلان ما نكح ولا ذبح ، وهذا مدح الرهبان الذين لا ينكحون ولا يذبحون ، وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء ، وآكل اللحم ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
وهذه الأشياء هي من الدين الفاسد ، وهو مذموم ، كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم ....
" مجموع الفتاوى " ( 10 / 620 - 623 )