توكيد الركن الأكيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد ، والصلاة والسلام على النبي أحمد ، وعلى آله وصحبه إلى الأبد ، وعلى تابعيهم على المنوال الموحد ، ورحمنا الله برحمته الواسعة حتى يشملنا ما شمل منهم كل أحد .
أيها الإخوة الكرام تحيات مني عليكم وبركات من الله علينا وعليكم ، وأبارك لكم هذه الأيام المباركات ، وأسأل الله أن يتم علينا وعليكم أيام المناسك والعيد بمغفرة الذنوب وتطهير القلوب ورفع الدرجات وإنزال الرحمات وبعفو عام شامل لسنتين من السيئات بصيام يوم عرفات ، نسأل الله القبول بعد اليقين بأنه رب كريم غفور، فتقبل الله منا ومنكم ، ورزقنا مزيدا من الشهود للنعم والجود ، وأعاد الله علينا وعليكم هذه الأوقات الطيبات أعواما عديدة بطول الأجل في صلاح وعافية .
أما بعد :
فإن مما يجب على طالب العلم والمريد الروحاني أن يعرفه ليلتزمه مسألة جد هامة ، يستحضرها في كل شؤونه ويملأ بها قلبه بيقينه ويعدها من زاده في الأعمال كلها ، منها يستمد الثقة ، وبها يستلهم الفكر الحقه ، ومنها يستقي النظر ليصيب عين الدقة ، فهي بمثابة ركن ركين يقوم عليه بنيان هذه العلوم الباطنة الروحانية ، وبوجودها يوجد في الحقيقة ، وعلى قدر قوتها يقوم ويقوى ، ومقدار رسوخ القدم في الحكمة بمقدارها في السر والعلانية ، ونفوذ الأعمال وصحتها بتحقق الأثر من السر وفيوضه عليها ، هذا هو الحق اليقين ، فلن تجد عند فاقده إلا انهماكا في التقرب من الشياطين أو تضليلا منهم فيرى ولا يدري حقائق ما يرى ، فمن لهذا السر حرم فكن على يقين من أن أعوانه في العلوم ليست مرتضاة عند الحي القيوم ، فإياك أن تأتيه فاحذره ، وإلا كان شؤما عليك وعلى أهل بيتك في الدنيا والآخرة ، فهو من جند الشيطان سواء كان عمله قليلا أو كثيرا ، رجلا كان أو امرأة ، شيخا كان إما معمما أو حاسرا ، علم المسكين أو لم يعلم .
أيها الطلاب المهتدون إن شاء الله تعالى ، إن لهذه العلوم نورا لا يخفى ، وطمأنينة في القلب لا تخفى ، وأنسا في الروح ويقينا في الشهود ، وعلائم في الظاهر والباطن ، ليست مع وغر الصدور ، ولا مع ظلمة الوجه وكسوف في الإيمان ، ولا مع استشعار سوء الحال وضنك في الليل والنهار ، بل لعلوم الحكمة وللأسراراللدنية وللمعارف الربانية أنوارا وتلألؤا وإشراقا في الوجوه ، وبهجة وسعادة في النفوس ، ورقة وهدوء في الأروح ، وحلاوة وسعة في الأخلاق ، ونورا ساطعا في الحياة كلها رغم الأقدار التي تجري عليه أحيانا ، وثقة بالله وسعادة عند ذكر الله ومحبة لخلق الله وصدقا في القول وأداء لحقوق العباد ، ومددا يستشعره الصادق كل حين ، ووصلا بحضرات الملإ الأعلى ، وجودة في الفكر وأدبا في المعاملة ، وجماع ذلك كله العفة والنزاهة وإيثار الآخرة على الفانية وإخلاص لله تعالى في السر والعلانية .
فمن كانت هذه حاله فليستبشر فوالله وبالله وتالله ليرين من الله تعالى كل خير ، وليصلنه منه مدد وعون ، وليفتحن له فتحا مبينا ، وليرزقن من هذا العلم سره وجوهره ، ولينطقن بالحكمة ومن حياضها بكل زهرة بهيجة ووردة أريجة ، وليظهرن عليه ما لا قبل للعلوم المكتوبة بإفادته لمقلب صفحاتها سواء المخطوطة والمطبوعة .
أما الآخر الملبس عليه فلا يدري ما وجهته ولا يلتفت إلى ما ضاع من عمره ، ولا يخاف على نفسه سوء العاقبة حتى يلقاها مذءوما مدحورا .
أيها الإخوة الأعزاء هنيئا لكم أن عرفتم هذه الحقيقة فهي توصيف بالدقة لأحوال سالكي هاتين الخطتين ، فريقان يختصمون ، فريق على الجادة وبربه موصول دائما لا يبغي له بدلا ، معترف لربه بكل ما يستحقة ويستوجبه من الألوهية والربوبية والكمال ، وفريق ضال قد سعى لإضلال الناس وتنحيتهم عن الصراط المستقيم ، سالكا بهم صراط أهل الجحيم ، وخارجا بهم عن ربقة الدين فهم يعمهون ، وللشيطان متبعون ، مصرون مع شدة المخالفة ويتمنون على الله الأماني ، وحقيقتهم صارخة أنهم هم الفاسقون الكاذبون المبدلون فسحقا لهم ثم سحقا .
أيها الطلاب الروحانيون اعلموا أن الصفوة قليلة ، واعلموا أن مدار الأعمال الباطنية ومحور الحكمة الربانية هي التزام نهج الإيمان والإخلاص لله تعالى حتى أبعد مدى في الإخلاص ، كما في الأثر( من أخلص لله أربعين يوما تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ) ، وذلك يكون باستحضار خصوصيات الألوهية والربوبية بحيث لا يخرج الطالب عن ذلك قيد أنملة ، ولا يتجاوز ولا يتجاسر على تلك الحدود فيشقى ، قال الله تعالى { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ، فالزم حدودك أيها الطالب واعلم أن التأثير من الله وحده ، والتصرف المطلق له وحده ، فلا تنازع الله حقه وخصوصيات ربوبيته فتنسب الفعل في الكون لغيره من المخلوقات الكائنة بالله لا بذاتها ، كالأولياء أو الجن أو الاملاك ، فاحذر فأنت تعرف أن من خلقك هو الله تعالى ، ومن يرزقك هو الله تعالى ومن سيتوفاك هو ربك عز وجل ، ومن كتب عليك الكتاب هو الله وحده لم يكن أحد معه وقد قضى فيه كل شيء ، فإياك أن تبدل أو تغير ، وإن ظهر شيء عند أحد فالله هو مولاه وهو ربه وهو الذي أعطاه فاطلب من الله أن يمنحك من خزائن رحمته ولا تنظر بقلبك إلى الفقير المربى الذي يعطيه الله كل حين ويخصه بما يشاء كلما شاء ، ولا تنظر إلى الأرواح الروحانية على أنها قادرة على قضاء الحوائج إلا وأنت موقن أن الله تعالى هو الذي يؤثر عليها لتفعل ما تؤمر به ، والله هو مقلب القلوب ومصرف القلوب والأبصار ، وهو الله لا إله إلا هو الواحد المتعال { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هـل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } ، فكيف تخالف هذا الحق الأبلج ثم ترجو بعد ذلك الوصول ، لا قدر الله علينا الضلال بعد العلم والبيان ، قال تعالى { وماكان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم مايتقون } ، فاللهم اهدنا إلى طريقك ومسكنا بالإسلام حتى نلقاك به آمين .
فلا لتلويث العبادة بخبث الطوية وفساد النية ، بل عليكم بالعزم على التزام الإخلاص لله تعالى في طلب العلم الروحاني ، ولا تظنوا أن ذلك سينقصكم ويلتكم من أعمالكم الروحانية تأثيرها ، ولا تلتفتوا حين الذكر وحين التلاوة وحين العمل إلى استجداء من الأرواح ، ولا تنظروا بعين الروح والقلب إلى مخلوق ، فتكونوا عن الله تعالى من الغافلين ، وتكونوا عن الصراط المستقيم من الناكبين فالحذر الحذر .
فهذه نصائح من المجربين خذوها واعقلوها ولا تفرطوا فيها فثم كل الندم ، فقد جلسوا يذكرون زمنا مديدا بالتفات إلى الرفات فلم يحصلوا إلا السراب بعد أن أضاعوا العمر والأوقات ، وتلبسوا بكبرى الموبقات ، فأظلمت منهم الوجوه وعميت الأبصار والبصائر والله هو التواب وإليه المرجع والمئاب .
وصلى الله وسلم وبارك على نبيا محمد وعلى آله وصحبه إلى أبد الآباد
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
